فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يقول تعالى: {واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا} [مريم: 51] من خَلّصَ شيئا من أشياء، أي: استخرج شيئًا من أشياء كانت مختلطة به، كما نستخلص مثلًا العطور من الزهور، فقد أخذت الجيد وتركت الرديء، وبالنسبة للإنسان نقول: فلان مُخلص لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة لتخدم كل حركة في الحياة، وكل مَلَكَة من ملَكَاته، أو جهاز من أجهزته له مهمة يؤديها، إلا أنها قد تدخل عليها أشياء ليست من مهمته، أو تخرج عن غاياتها فتحدث فيه بعض الشوائب، فيحتاج الإنسان لأنْ يُخلِّص نفسه من هذه الشوائب.
فمثلًا، الحق تبارك وتعالى جعل التقاء الرجل والمرأة لهدف محدد، وهو بقاء النوع؛ لذلك تجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا بالعقل والاختيار إذا أدى كُلُّ من الذكر والأنثى هذه المهمة لا يمكن أنْ تُمكِّن الأنثى الذكر منها، وكذلك الذكر لا يأتي الأنثى إذا علم من رائحتها أنها حامل.
إذن: وقف الحيوان بهذه الغريزة عند مهمتها، وهي حفظ النوع، لكن الإنسان لم يقف بهذه الغريزة عند حدودها، بل جعلها مُتعةً شخصية يأتي حِفْظ النوع تابعًا لها.
وكذلك الحال في غريزة الطعام، فالإنسان إذا جاع يحتاج بغريزته إلى أنْ يأكلَ، والحكمة من ذلك استبقاء الحياة، لا الامتلاء باللحم والشحم. فالحيوان يقف بهذه الغريزة عند حَدِّها، فإذا شبع لا يمكن أنْ تُجبره على عود برسيم واحد فوق ما أكل.
أما في الإنسان فالأمر مختلف تمامًا، فيأكل الإنسان حتى الشِّبَع، ثم حتى التُّخْمة، ولا مانع بعد ذلك من الحلو والمشروبات وخلافه؛ لذلك وضع لنا الخالق سبحانه وتعالى المنهج الذي يُنظّم لنا هذه الغريزة، فقال تعالى: {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} [الأعراف: 31].
وفي الحديث الشريف: «بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه، فإن كان ولابد فاعلًا، فثُلث لطعامه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنفَسِه».
ومن الغرائز أيضًا غريزة حب الاستطلاع، فالإنسان يحب أن يعرف ما عند الآخر ليحدث بين الناس الترقي اللازم لحركة الحياة، ومعرفة أسرار الله في الكون، وهذا هو الحد المقبول أما أن يتحول حب الاستطلاع إلى التجسس وتتبّع عورات الآخرين، فهذا لا يُقبل ويُعَدُّ من شوائب النفوس، يحتاج إلى أنْ نُخلِّص أنفسنا منه.
إذن: لكل غريزة حكمة ومهمة يجب ألاَّ نخرج عنها، والمُخْلَص هو الذي يقف بغرائزه عند حَدِّها لا يتعدَّاها ويخلصها من الشوائب التي تحوط بها. وهذه الصفة إمّا أنْ يكرم الله بها العبد فيُخلِّصه من البداية من هذه الشوائب، أو يجتهد هو ليُخلّص نفسه من شوائبها باتباعه لمنهج الله. هذا هو المُخْلَص: أي الذي خلص نفسه.
لذلك، يقولون: من الناس مَنْ يصِل بطاعة الله إلى كرامة الله، ومن الناس مَنْ يصل بكرامة الله إلى طاعة الله. وقد جعل الله تعالى الأنبياء مخْلَصين من بدايتهم، ليكونوا جاهزين لهداية الناس، ولا يُضيِّعون أوقاتهم في تخليص أنفسهم من شوائب الحياة وتجاربها.
ألم يستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وعشرين سنة يُعلِّم الناس كيف يُخِلصون أنفسهم؟ فكيف إنْ كان النبي نفسه في حاجة لأنْ يُخلص نفسه؟
ولمكانة هؤلاء المخْلَصين ومنزلتهم تأدَّب إبليس وراعى هذه المنزلة حين قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83]. لأن هؤلاء لا يقدر إبليس على غوايتهم.
ثم يقول تعالى: {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} [مريم: 51] لأن من عباد الله مَنْ يكون مخْلَصًا دون أن يكون نبيًا أو رسولًا كالعبد الصالح مثلًا؛ لذلك أخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه جمع له كل هذه الصفات.
والرسول: مَنْ أُوحي إليه بشرع يعمل به ويُؤْمَر بتبليغه لقومه، أما النبي، فهو مَنْ أُوحِي إليه بشرع يعمل به لكن لم يُؤْمَر بتبليغه. إذن: فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا؛ لأن النبي يعيش على منهج الرسول الذي يعاصره أو يسبقه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور}.
قوله تعالى: {مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52] أيمن الطور، أَمْ أيمن موسى؟ أيّ مكان لا يُقال له أيمن ولا أيسر، إنما الأيمن والأيسر بالنسبة لك أو لغيرك، فالذي تعتبره أنت يمينًا يعتبره غيرُك يسارًا، ولا يُقال للمكان أيمن ولا أيسر إلا إذا قِسْته إلى شيء ثابت كالقِبْلة مثلًا فتقول: أيمن القبلة، وأيسر القبلة، وخلف القِبْلة، وأمام القِبْلة.
إذن: فقوله: {مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52] أي: أيمن موسى، وهو مُقبل على الجبل، وهذه لقطة مختصرة من القصة جاءت مُفصَّلة في قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَارًا} [القصص: 29].
وقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] أي: قرَّبْناه لِنُنَاجيه بكلام. والنجيّ: هو المنَاجِي الذي يُسِرُّ القول إلى صاحبه، كما جاء في الحديث الشريف: «إذا كنتم ثلاثة فلا ينتاجَ اثنان دون الآخر، فإن ذلك يُحزِنه».
وقد قرَّب الله تعالى موسى ليناجيه؛ لأن هذه خصوصية لموسى عليه السلام، فكلام الله لموسى خاصٌّ به وحده لا يسمعه أحد غيره، فإنْ قلتَ: فكيف يكلّمه الله بكلام، ويسمى مناجاة؟ قالوا: لأنه تعالى أسمعه موسى، وأخفاه عن غيره، فصار مناجاة كما يتناجى اثنان سِرًا. وهذا من طلاقة قدرته تعالى أن يُسمع هذا، ولا يُسمع ذاك.
وبعض المفسرين يرى أن (الأيمن) ليس من اليمين، ولكن من اليُمْن والبركة. و{وَقَرَّبْنَاهُ} [مريم: 52] أي: من حضرة الحق تبارك وتعالى. لكن هل حضرة الحق قُرْب منه، أم موسى هو الذي قَرُب من حضرة الحق سبحانه؟ كيف نقول إن الله قرب منه وهو سبحانه أقرب إليه من حبل الوريد، فالتقريب إذن لموسى عليه السلام.
وهكذا جمع الحق تبارك وتعالى لموسى عدةٍ خصال، حيث جعله مخلَصًا ورسولًا ونبيًا، وخَصَّه بالكلام والمناجاة، ثم يزيده هِبةً أخرى في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ}.
وهب الله لموسى أخاه هارون رحمةً بموسى؛ لأن هارون كان مُعينًا لأخيه ومساندًا له في مسألة الدعوة، وهذه لم تحدث مع نبي آخر أن يجعل الله له معينًا في حمل هذه المهمة؛ لذلك قال موسى عليه السلام: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34].
والرِّدْء: هو المعين. وهكذا أعطانا الحق تبارك وتعالى لقطة سريعة من موكب النبوة في قصة موسى، ولمحة مُوجَزة هنا أتى تفصيلها في موضع آخر. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)}.
أخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {إنه كان مخلصًا} بنصب اللام.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وكان رسولًا نبيًا} قال: النبي وحده الذي تكلم، وينزل عليه ولا يرسل، ولفظ ابن أبي حاتم الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم، ولا يرسل إلى أحدهم، والرسل الأنبياء الذين يوحى إليهم ويرسلون.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {جانب الطور الأيمن} قال: جانب الجبل الأيمن {وقربناه نجيا} قال: نجا بصدقه.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية في قوله: {وقربناه نجيًا} قال: قربه حتى سمع صرير القلم.
وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر، عن ميسرة {وقربناه نجيًا} قال: أدني حتى سمع صرير القلم في الألواح وهو يكتب التوراة.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير {وقربناه نجيًا} قال: أردفه جبريل، حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي {وقربناه نجيًا} قال: ادخل في السماء فكلم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات، عن مجاهد في قوله: {وقربناه نجيًا} قال بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة، حجاب نور وحجاب ظلمة، حجاب نور وحجاب ظلمة، فما زال موسى يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم {قال رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143].
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وهناد في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس {وقربناه نجيًا} حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب الله موسى نجيًا بطور سينا قال: يا موسى، إذا خلقت لك قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة تعين على الخير، فلم أخزن عنك من الخير شيئًا، ومن أخزن عنه هذا، فلم أفتح له من الخير شيئًا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًا} قال: كان هرون أكبر من موسى ولكن إنما وهب له نبوّته. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)}.
قوله تعالى: {نَجِيًّا}: حالٌ مِنْ مفعولِ {قَرَّبْناه} وأصلُه نَجِيْوا، لأنه مِنْ نجا يَنْجو، والأَيْمَن: الظاهر أنه صفةٌ لجانب بدليل أنه تبعه في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} [طه: 80]. وقيل: إنه صفةٌ للطور؛ إذ اشتقاقُه من اليُمْن والبركة.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}.
قوله تعالى: {مِن رَّحْمَتِنَآ}: في {مِنْ} هذه وجهان، أحدهما: أنها تعليليةٌ، أي: مِنْ أَجْل رحمتِنا. و{أخاه} على هذا مفعولٌ به، و{هرون} بدلٌ أو عطف بيان، أو منصوبٌ بإضمار أَعْني، و{نَبِيًَّا} حالٌ. والثاني: أنها تبعيضيةٌ، أي: بعض رحمتِنا. قال الزمخشري: و{أخاه} على هذا بدلٌ، و{هرونَ} عطف بيان. قال الشيخ: الظاهرُ أنَّ {أخاه} مفعولُ {وَهَبْنَا}، ولا تُرادِفُ {مِنْ} بعضً فَتُبْدِلُ {أخاه} منها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 52-53]، وفي سورة الفرقان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35]، ومقصود الآيتين تأييد موسى عليه السلام، بأخيه هارون، ثم اختلف الوصف بالنبوة والوزارة مع اتحاد المقصود، للسائل أن يسأل عن ذلك؟
والجواب عنه، والله أعلم: محصل طي تمهيد وهو أن السور المتردد فيها ذكر الرسل، عليهم السلام، منوطًا فيها ذكرهم بذكر أممهم، وما كان من معاندة الأمم وتكذيبهم، وأخذ المكذبين بمرتكباتهم، ولا تكاد تجد سورة منها وارد فيها ذكرهم إلا على ما ذكرنا، وأكثر تلك السور استيفاء لهذا الغرض سور ثلاث، وهي: سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الشعراء، ثم يليها في ذلك سورة قد أفلح، وقل ما تجد سورة ورد فيها قصة منها واحدة فصاعدًا إلا جارية على ما ذكرته، وربما أجمل ذلك في بعضها مع تحصيل ما ذكرنا من أخذ الأمم بعد تكذيبهم، وآخر سورة ذكرت فيها قصصهم معتمدًا فيها ما اطرد من أخذ كل أمة يتكذيبها، وآخر سورة ذكرت فيها قصصهم معتمدًا فيها ما اطرد من أخذ كل أمة بتكذيبها، وبيان ما به أهلكت من الغرق والريح والصيحة والحاصب وعنيف الأخذ بالعزة والاقتدار سورة القمر مع إيجاز القصص، ولم يرد في غير هذه السورة الوفاء بما ذكرنا، وإنما خصت هذه السورة ببيان كيفية أخذ المكذبين كما بينته في كتاب البرهان، ثم إن سورة مريم تضمنت طائفة عظيمة فصل ذكر بعضهم وأجمل ذكر البعض، وقد تجرد فيها من الإخبار بأحوالهم ذكر التعريف بخصائص من منحهم وعلى أقدارهم، وما أيدوا به من ذلك، من غير أن يشوب هذا ذكر شيء من تكذيب من كذب منهم، إلا ما ورد في ذكر إبراهيم عليه السلام، من قول أبيه له: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46]، ولم يذكر من حال قومه، عليه السلام، شيء، ولا ذكر فيما بعد ولا فيما تقدم من هذه السورة (إلا خصائصهم ومنحهم العلية التي بها امتازوا عمن سواهم من صالحي الأمم) كما تقيدت به مما ذكرنا.
ثم إن النبوة أعظم خصائصهم التي تساووا في تحمل أمانتها، وأفردوا، عليهم الصلاة والسلام، (بها)، ولم يشاركهم فيها غيرهم، أما اسم الوزارة والوصف بها فليس مما يخصهم ولا مما أفردوا به، فلم يكن وصف هارون، عليه السلام، هنا (بها) ليناسب هذا القصد العلي ولا ليلائمه. وأما قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35] فمرتب على سؤال موسى عليه السلام في سورة طه في قوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ} [طه: 29-30]، فأعطى عليه السلام مطلبه. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}، ورد هذا على الترتيب المتقرر في المصحف. ثم إن ما اتصل بهذه الآية وآية سورة مريم مما قبلهما وبعدهما يستدعي التناسب في مقاطع الآي وفواصلها، فلم يكن ورود الآيتين في السورتين على غير ما ورد ليناسب، فجاء ذلك على ما يجب من الوجهين المذكورين، والله أعلم بما أراد. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى}.
{مُخْلَصًا} خالصًا لله، ولم يكن لغيرِه بوجهٍ؛ فلم تأخذه في الله لومةُ لائم، ولم يستفزه طمع نحو إيثار حظٍ، ولم يُغْض في اللَّهِ على شيءٍ.
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)}.
للنجوى مزية على النداء، فجمع له الوصفَيْن: النداءَ في بدايته، والسماعَ والنجوى في نهايته؛ فوقَفَه الحقُّ وناداه، وفي جميع الحالين تولاّه.
{مِن جَانِبِ الطُّورِ}: ترجع إلى موسى فموسى كان بجانب الطور.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}.
من خصائص موسى أنه وهب له أخاه هارون نبيًَّا. اهـ.

.تفسير الآيات (54- 55):

قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان إسماعيل عليه الصلاة والسلام هو الذي ساعد أباه إبراهيم عليه السلام في بناء البيت الذي كان من الأفعال التي أبقى الله بها ذكره، وشهر أمره وكان موافقًا لموسى عليه السلام في ظهور آية الماء الذي به حياة كل شيء وإن كانت آية موسى عليه السلام انقضت بانقضائه، وآيته هو باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي التي كانت سبب حياته وماؤها ببركته أفضل مياه الأرض، وجعل سبحانه آية الماء التي أظهرها له سبب حفظه من الجن والإنس والوحش وسائر المفسدين، إشارة إلى أنه سبحانه يحيي بولده محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي غذاه بذلك الماء ورباه عند ذلك البيت إلى أن اصطفاه برسالته، فحسدته اليهود وأمرت بالتعنت عليه- ما لم يحي بغيره، ويجعله قطب الوجود كما خصه- من بين آل إبراهيم عليه السلام- بالبيت الذي هو كذلك قطب الوجود، ويشفي به من داء الجهل، ويغني به من مرير الفقر، كما جعل ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم، وكان- صلى الله عليه وسلم- آخر من شيد قدرهم، وأعظم من أعلى ذكرهم، عقب ذكره بذلك فقال: {واذكر في الكتاب} أباك الأقرب {إسماعيل} ابن إبراهيم عليهما السلام الذي هم معترفون بنبوته، ومفتخرون برسالته وأبوته، فلزم بذلك فساد تعليلهم إنكار نبوتك بأنك من البشر، ثم علل ذكره والتنويه بقدره بقوله معلمًا بصعوبة الوفاء بالتأكيد: {إنه كان} جبلة وطبعًا {صادق الوعد} في حق الله وغيره لمعونة الله له على ذلك، بسبب أنه لا يعد وعدًا إلا مقرونًا بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبرهم بأمر ذبحه {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} فكن أبي كذلك ولا تقولن لشي إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله، وخصه بالمدح به- وإن كان الأنبياء كلهم كذلك- لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله {وكان رسولًا نبيًا} نبأه الله بأخباره، وأرسله إلى قومه جرهم قاله الأصبهاني.
وأتى أهل البراري بدين أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فأحياها الله بنور الإيمان الناشىء عن روح العلم ووصفه بالرسالة زيادة على وصف أخيه إسحاق عليهما السلام وتقدم في أمر موسى عليه السلام سر الجمع بين الوصفين؛ وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي- عن واثلة بن الأسقع- رضي الله عنهم- «أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل عليه السلام» وفي رواية الترمذي «أن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» {وكان يأمر أهله بالصلاة} التي هي طهرة البدن وقرة العين وخير العون على جميع المآرب {والزكاة} التي هي طهرة المال، كما أوصى الله بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم في هذه السورة أنه سبحانه وتعالى أوصى بذلك عيسى عليه السلام {وكان عند ربه} لعبادته على حسب ما أقامته ربوبيته {مرضيًا} فاقتد أنت به فإنه من أجل آبائك، لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال، فتنال رتبة الرضا. اهـ.